فصل: تفسير الآيات (4- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (4- 6):

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)}
ولما قررهم على ما تقدم وختم بالتوحيد الذي هو الأصل الأول من أصول الدين، نبه على أنه المقصود بالذات بذكر ما يعقبه في الأصل الثاني، وهو الرسالة من تصديق وتكذيب، فقال ناعياً على قريش سوء تلقيهم لآياته، وطعنهم في بيناته، مسلياً له صلى الله عليه وسلم، عاطفاً على ما تقديره: فإن يصدقوك فهم جديرون بالتصديق لما قام على ذلك من الدلائل، وشهد به من المقاصد والوسائل: {وإن يكذبوك} أي عناداً وقلة اكتراث بالعواقب فتأسّ بإخوانك {فقد} أي بسبب أنه قد {كذبت رسل} أي يا لهم من رسل! وبني الفعل للمجهول لأن التسلية محطها، وقوع التكذيب لا تعيين المكذب، ونفى أن يرسل غيره بعد وجوده بقوله: {من قبلك} وأفرد التكذيب بالذكر اهتاماً بالتسلية تنبيهاً على أن الأكثر يكذب، قال القشيري: وفي هذا إشارة للحكماء وأرباب القلوب مع العوام والأجانب من هذه الطريقة فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل، وأهل الحقائق أبداً منهم في مقاساة الأذية، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القراء المتقشفين.
ولما كان التقدير نفياً للتعجب من التكذيب الجاري على غير قياس صحيح: فمن الله الذي لا أمر لأحد معه تصدر الأمور، عطف عليه قوله مهدداً لمن خالف أمره: {وإلى الله} أي وحده له الأمور كلها {ترجع الأمور} أي حساً ومعنى، فاصبر ورد الأمر إلينا بترك الأسباب إلا ما نأمرك به كما فعل إخوانك من الرسل.
ولما أشعر هذا الختام باليوم الموعود، وهو الأصل الثابت قال مهدداً به محذراً منه: {يا أيها الناس} أي الذين عندهم أهليه للتحرك إلى النظر. ولما كانوا ينكرون البعث أكد قوله: {إن وعد الله} أي الذي له صفات الكمال وهو منزه عن كل شائبة نقص، فهو لا يجوز عليه في مجاري العادات للغنى المطلق أن يخلف الميعاد {حق} أي بكل ما وعد به من البعث وغيره وقد وعد أنه يردكم إليه في يوم تنقطع فيه الأسباب، ويعرض عن الأحساب والأنساب، ليحكم بينكم بالعدل، ثم سبب عن كونه حقاً قوله على وجه التأكيد لأجل الإنكار أيضاً: {فلا تغرنكم} أي بأنواع الخدع من اللهو والزينة غروراً مستمر التجدد {الحياة الدنيا} فإنه لا يليق بذي همه عليه اتباع الدنيء، والرضى بالدون الزائل عن العالي الدائم {ولا يغرنكم بالله} أي الذي لا يخلف الميعاد وهو الكبير المتعالي {الغرور} أي الذي لا يصدق في شيء وهو الشيطان العدو، ولذلك استأنف قوله مظهراً في موضع الإضمار للتنفير بمدلول الوصف قبل التذكير بالعداوة ووخامة العاقبة فيما يدعو إليه مؤكداً لأن أفعال المشايعين له بما يمنيهم به من نحو: إن ربكم حليم، لا يتعاظمه ذنب، مع الإصرار على المعصية أفعال المتعقدين لمصادقته: {إن الشيطان} أي المحترق بالغضب البعيد من الخير {لكم} أي خاصة فهو في غاية الفراغ لأذاكم، فاجتهدوا في الهرب منه {عدو} بتصويب مكايده كلها إليكم وبما سبق له مع أبيكم آدم عليه السلام بما وصل أذاه إليكم وأيضاً: «من عادى أباك فقد عاداك».
ولما كانت عداوته تحتاج إلى مجاهدة لأنه يأتي الإنسان من قبل الشهوات، عبر بصيغة الافتعال فقال: {فاتخذوا} اي بغاية جهدكم {عدواً} والله لكم ولي فاتخذوه ولياً بأن تتحروا ما يغيظ الشيطان بأن تخالفوه في كل ما يريده ويأمر به، وتتعمدوا ما يرضاه الرحمن ونهجه لكم وأمركم به فتلتزموه، قال القشيري: ولا يقوى على عداوته إلا بدوام الاستعانة بالرب فإنه لا يغفل عن عداوتك، فلا تغفل أنت عن مولاك لحظة. ثم علل ذلك بقوله: {إنما يدعو حزبه} أي الذين يوسوس لهم فيعرضهم لاتباعه والإعراض عن الله {ليكونوا} باتباعه كوناً راسخاً {من أصحاب السعير} هذا غرضه لا غرض له سواه، ولكنه يجتهد في تعمية ذلك عنهم بأن يقرر في نفوسهم جانب الرجاء وينسيهم جانب الخوف، ويريهم أن التوبة في أيديهم ويسوف لهم بها بالفسحة في الأمل، والإبعاد في الأجل، للإفساد في العمل، والرحمن سبحانه إنما يدعو عباده ليكونوا من أهل النعيم {والله يدعو إلى دار السلام} [يونس: 25].

.تفسير الآيات (7- 9):

{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)}
ولما أنهى البيان في غرض الشيطان إلى منتهاه، نبه على ما حكم به هو سبحانه في أشياعه بقوله مستأنفاً: {الذين كفروا} أي غطو بالاتباع له بالهوى ما دلتهم عليه عقولهم وكشفه لهم غاية الكشف هذا البيان العزيز {لهم عذاب شديد} أي في الدنيا بفوات غالب ما يؤملون مع تفرقة قلوبهم وانسداد بصائرهم وسفالة هممهم حتى أنهم رضوا أن يكون إلههم حجراً، وانحجاب المعارف التي لا لذاذة في الحقيقة غيرها عنهم، وفي الآخرة بالسعير التي دعاهم إلى صحبتها.
ولما ذكر جزاء حزبه، اتبعه حزب الله الذين عادوا عدوهم فقال: {والذين آمنوا وعملوا} أي تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} ولما كان من أعظم مصايد الشيطان ما يعرض للإنسان خطأ وجهلاً من العصيان، لما له من النقصان ليجره بذلك إلى العمد والعدوان، قال تعالى داعياً له إلى طاعته وإزالة لخجلته: {لهم مغفرة} أي ستر لذنوبهم بحيث لا عقاب ولا عتاب، وذلك معجل في هذه الدار، ولولا ذلك لافتضحوا وغداً، ولولا ذلك لهلكوا. ولما محاها عيناً وأثراً، أثبت الإنعام فقال: {وأجر كبير} أي يجل عن الوصف بغير هذا الإجمال، فمنه عاجل بسهولة العبادة ودوام المعرفة وما يرونه في القلوب من وراء اليقين، وآجل بتحقيق المسؤول من عظيم المنة، ونيل ما فوق المأمول في الجنة.
ولما أبان هذا الكلام تفاوت الحزبين في المآل بالهلاك والفوز، وكان لا يقدم على الهلاك أحد في حس، وكان الكفار يدعون أنهم الفائزون قناعة بالنظر إلى ما هم فيه، ويدعون أنهم أبصر الناس وأحسنهم أعمالاً وكذا كل عاص ومبتدع، كان ذلك سبباً في إنكار تساويهما، فأنكره مبيناً السبب في ضلالهم بما فيه تسلية للمحسنين وندب إلى الشكر وحث على ملازمة الافتقار والذل وسؤال العافية من الزلل والزيغ فقال: {أفمن} ولما كان الضار هو التزيين من غير نظر إلى فاعل معين بني للمفعول قوله: {زين له سوء عمله} أي قبحه الذي من شأنه أن يسوء صاحبه حالاً أو مآلاً بجمع مال ذاهب أو مذهوب عنه من غير خلة وبيع راحة الجنة المؤبدة بمتابعة شهوة منقية وإيثار مخلوق فإن على ربه الغني الباقي؛ ثم سبب عنه ما أنهى إليه من الغاية فقال: {فرآه} أي السيئ بسبب التزيين، {حسناً} أي فركبه، بما أشار إليه إضافة العمل إليه، وطوى المشبه به وهو كمن أبصر الأمور على حقائقها فاتبع الحسن واجتنب السيئ، لأن المقام يهدي إليه، وتعجيلاً بكشف ما أشكل على السامع من السبب الحامل على رؤية القبيح، مُليحاً بقوله مؤكداً رداً على من ينسب إلى غير الله فعلاً من خير أو شر: {فإن} أي السبب في رؤية الأشياء على غير ما هي عليه إن {الله} أي الذي له الأمر كله {يضل من يشاء} فلا يرى شيئاً على ما هو به، فيقدم على الهلاك البين وهو يراه عين النجاة {ويهدي من يشاء} فلا يشكل عليه أمر ولا يفعل إلإ حسناً.
ولما كان المحب من يرضى بفعل حبيبه، سبب عن ذلك النهي لأكمل خلقه عن الغم بسبب ضلالهم في قوله: {فلا} والأحسن أن يقدر المشبه به هنا فيكون المعنى: أفمن غير فعل القبيح فاعتقده حسناً لأن الله أضله بسبب أن الله هو المتصرف في القلوب كمن بصره الله بالحقائق؟
ولما كان الجواب: لا، ليس هما سواء سبب عنه قولاً: فلا {تذهب} أي بالموت أو ما يقرب منه {نفسك عليهم} أي بسبب ما هو فيه من العمى عن الجليات {حسرات} أي لأجل حسراتك المترادفة لأجل إعراضهم، جمع حسرة وهي شدة الحزن على ما فات من الأمر.
ولما كان كأنه قيل: إنهم يؤذون أولياءك فيشتد أذاهم، وكان علم الولي القادر بما يعمل عدوه كافياً في النصرة، قال: {إن الله} أي المحيط بجميع أوصاف الكمال {عليم} أي بالغ العلم، وأكده تنبيهاً على أن المقام صعب، ومن لم يثبت نفسه بغاية جهده زل لطول إملائه تعالى لهم وحلمه عنهم {بما يصنعون} أي مما مرنوا عليه وانطبعوا فيه من ذلك حتى صار لهم خلقاً يبعد كل البعد انفكاكهم عنه.
ولما أخبر تعالى أنه لابد من إيجاد ما وعد به من البعث وغيره، وحذر كل التحذير من التهاون بأمره، وأنكر التسوية بين المصدق به والمكذب، وكان السبب في الضلال المميت للقلوب الهوى الذي يغشى سماء العقل ويعلوه بسحابه المظلم فيحول بينه وبين النفوذ، وكان السبب في السحاب المغطي لسماء الأرض المحيي لميت الحبوب الهوى، وكان الإتيان به في وقت دون آخر دالاً على القدرة بالاختيار، قال عاطفاً على جملة {إن وعد الله حق} المبني على النظر، وهو الإخراج من العدم مبيناً لقدرته على ما وعد به: {والله} أي الذي له صفات الكمال لا شيء غيره من طبيعة ولا غيرها {الذي} ولما كان المراد الإيجاد من العدم، عبر بالماضي مسنداً إليه لأنه الفاعل الحقيقي فقال: {أرسل الرياح} أي أوجدها من العدم مضطربة فيها، أهلية الاضطراب والسير ليصرفها كيف شاء لا ثابتة كالأرض، وأسكنها ما بين الخافقين لصلاح مكان الأرض.
ولما كانت إثارتها تتجدد كلما أراد أن يسقي أرضاً، قال مسنداً إلى الرياح لأنها السبب، معبراً بالمضارع حكاية للحال لتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على تمام القدرة، وهكذا تفعل العرب فيما فيه غرابة تنبيهاً للسامع على ذلك وحثّاً له على تدبره وتصوره: {فتثير} أي بتحريكه لها إذا أراد {سحاباً} أي أنه أجرى سبحانه سنته أن تظهر حكمته بالتدريج.
ولما كان المراد الاستدلال على القدرة على البعث، وكان التعبير بالمضارع يرد التعنت، عبر بالمضارع. ولما كان سوق السحاب إلى بلد دون آخر وسقيه لمكان دون مكان من العظمة بمكان، التفت على الغيبة وجعله في مظهر العظمة فقال: {فسقناه} أي السحاب معبراً بالماضي تنبيهاً على أن كل سوق كان بعد إثارتها في الماضي والمستقبل منه وحده أو بواسطة من أقامة لذلك من جنده من الملائكة أو غيرهم، لا من غيره، ودل على أنه فرق بين البعد والقرب بحرف الغاية فقال: {إلى بلد ميت}.
ولما كان السبب في الحياة هو السحاب بما ينشأ عنه من الماء قال: {فأحيينا به الأرض} ولما كان المراد إرشادهم إلى القدرة على البعث الذي هم به مكذبون، قال رافعاً للمجاز بكل تقدير وموضحاً كل الإيضاح للتصوير: {بعد موتها} ولما أوصل الأمر إلى غايته، زاد في التنبيه على نعمة الإيجاد الثاني بقوله: {كذلك} أي مثل الإحياء لميت النبات {النشور} حسّاً للأموات، ومعنى للقلوب والنبات، قال القشيري: إذا أراد إحياء قلب يرسل أولاً رياح الرجاء، ويزعج بها كوامن الإرادة، ثم ينشئ فيه سحاب الاهتياج، ولوعة الانزعاج، ثم يأتي مطر الحق فينبت في القلب أزهار البسط وأنوار الروح، ويطيب لصاحبه العيش إلى أن تتم لطائف الإنس.

.تفسير الآيات (10- 12):

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)}
ولما قرر بهذا كله ما أثبته سابقاً من عزته وحكمته وثبت أنه قادر على النشور فثبت أن له العزة في الآخرة كما شوهد ذلك في الدنيا، وكانت منافسه الناس لاسيما الكفرة في العزة فوق منافستهم في الحكمة، ومن نافس في الحكمة فإنما ينافس فيها لاكتساب العزة، وكان الكفرة إنما عبدوا الأوثان ليعتزوا بها كما قال: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزّاً} [مريم: 81] قال مستنتجاً من ذلك: {من كان} أي في وقت من الأوقات {يريد العزة} أي أن يكون محتاجاً إليه غيره وهو غني عن غيره غالباً غير مغلوب {فلله} أي وحده {العزة جميعاً} أي فليطلبها منه ولا يطلبها من غيره، فإنه لا شيء لغيره فيها ومن طلب الشيء من غير صاحب خاب؛ قال ابن الجوزي: وقد روي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن ربكم يقول كل يوم: أنا العزيز فمن أرادة عزة الدارين فليطع العزيز».
ولما رغب في اقتناص العزة بعد أن أخبر أنه لا شيء فيها لغيره، دل على اختصاصه بها بشمول علمه وقدرته، وبين أنها إنما تنال بالحكمة فقال: {إليه} أي لا إلى غيره {يصعد الكلم الطيب} أي الجاري على قوانين الشرع عن نية حسنة وعقيدة صحيحة سواء كان سراً علناً لأنه عين الحكمة، فيعز صاحبه ويثيبه.
ولما أعلى رتبة القول الحكيم، بين أن الفعل أعلى منه لأنه المقصود بالذات، والقول وسيلة إليه، فقال دالاًّ على علوه بتغيير السياق: {والعمل الصالح يرفعه} هو سبحانه يتولى رفعه ولصاحبه عنده عز منيع ونعيم مقيم، وعمله يفوز، قال الرازي في اللوامع: العلم إنما يتم العمل كما قيل: العلم يهتف بالعمل، فإن أجاب وإلا ارتحل- انتهى، وقد قيل:
لا ترض من رجل حلاوة قوله ** حتى يصدق ما يقول فعال

فإذا وزنت مقاله بفعاله ** فتوازنا فإخاء ذاك جمال

ولما بين ما يحصل العزة من الحكمة، بين ما يكسب الذلة ويوجب النقمة من رديء الهمة فقال: {والذين يمكرون} أي يعملون على وجه الستر المكرات {السيئات} أي يسترون قصودهم بها ليوقعوها بغتة {لهم عذاب شديد} كما أرادوا بغيرهم ذلك، ولا يصعد مكرهم إليه بنفسه ولا يرفعه هو، لأنه ليس فيه أهلية ذلك لمنافاته الحكمة. ولما كان ما ذكر من مكرهم موجباً لتعرف حاله هل أفادهم شيئاً؟ أخبر أنه أهلكه بعزته ودمره بحكمته فقال: {ومكر أولئك} أي البعداء من الفلاح {هو} أي وحده دون مكر من يريد بمكره الخير فإن الله ينفذه ويعلي أمره ويجعل له العاقبة تحقيقاً لقوله تعالى: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال: 30] كما أخرجكم أيها الأولياء من بيوتكم لأجل العير فأخرج الأعداد من بيوتهم فوضعهم في قليب بدر {يبور} أي يكسد ويفسد ويهلك، فدل ذلك على شمول علمه للخير والشر من القول والفعل الخفي والجلي وتمام قدرته، وذلك معنى العزة، والآية من الاحتباك: حذف ما لصاحب العمل الصالح ودل عليه بذكر ما لعامل السيئ وحذف وضعه المكر السيئ ودل عليه برفعه للعمل الصالح.
ولما ذكر سبحانه ما صيرهم إليه من المفاوتة في الأخلاق، أتبعه ما كانوا عليه من الوحدة في جنس الأصل، وأصله التراب المسلول منه الماء بعد تخميره فيه وإن اختلفت أصنافه فقال مبيناً لبعض آيات الأنفس عاطفاً على ما عطف عليه {والله الذي أرسل الرياح} الذي هو من آيات الآفاق، منبهاً على أنه قادر على التمييز بعد شديد المزج وأنه قدر كل شيء من الأرزاق والآجال والمصائب والأفراح، فلا ثمرة للمكر إلا ما يلحق الماكر من الحرج والعقوبة من الله والضرر: {والله} أي الذي له جميع صفات الكمال؛ ولما لم يدع حاجة إلى الحصر قال: {خلقكم من تراب} أي مثلي وإن اختلفت أصنافه بتكوين أبيكم منه فمزجه مزجاً لا يمكن لغيره تمييزه، ثم أحاله عن ذلك الجوهر أصلاً ورأساً، وإليه الإشارة بقوله: {ثم} أي بعد ذلك من الزمان والرتبة خلقكم {من نطفة} أي جعلها أصلاً ثانياً مثلياً من ذلك الأصل الترابي أشد امتزاجاً منه ثم بعد إنهاء التدبير زماناً ورتبة إلى النطفة التي لا مناسبة بينها وبين التراب دلالة على كمال القدرة والفعل بالاختيار {ثم جعلكم أزواجاً} بين ذكور وإناث، دلالة هي أظهر مما قبلها على الاختيار وكذب أهل الطبائع، وعلى البعث بتمييز ما يصلح من التراب للذكورة والأنوثة.
ولما كان الحمل أيضاً مكذباً لأهل الطبائع بأنه لا يكون من كل جماع، أشار إليه بقوله مؤكداً رداً عليهم إعلاماً بأن ذلك إنما هو بقدرته: {وما تحمل} أي في البطن بالحبل {من أنثى} دالاً بالجار على كمال الاستغراق. ولما كان الوضع أيضاً كذلك بأنه لا يتم كلما حمل به قال: {ولا تضع} أي حملاً {إلا} مصحوباً {بعلمه} في وقته ونوعه وشكله وغير ذلك من شأنه مختصاً بذلك كله حتى عن أمه التي هي أقرب إليه، فلا يكون إلا بقدرته، فما شاء أتمه، وما شاء أخرجه.
ولما كان ما بعد الولادة أيضاً دالاً على الاختيار لتفاضلهم في الأعمار مع تماثلهم في الحقيقة، دل عليه بقوله دالاً بالبناء للمفعول على سهولة الأمر عليه سبحانه، وأن التعمير والنقص هو المقصود بالإسناد: {وما يعمر من معمر} أي يزاد في عمر من طال عمره أي صار إلى طول العمر بالفعل حساً، قال قتادة: ستين، أو معنى بزيادة الفاعل المختار زيادة لولاها لكان عمره أقصر مما وصل إليه {ولا بنقص من عمره} أي المعمر بالقوة وهو الذي كان قابلاً في العادة لطول العمر فلم يعمر بنقص الفاعل المختار نقصاً لولاه لطال عمره، فالمعمر المذكور المراد به الفعل، والذي عاد إليه الضمير المعمر بالقوة فهو من بديع الاستخدام، ولو كان التعبير بأحد لما صح هذا المعنى، وقراءة يعقوب بخلاف عن رويس بفتح الياء وضم القاف بالبناء للفاعل تشير إلى أن قصر العمر أكثر.
ولما كان في سياق العلم وكان أضبطه في مجاري عاداتنا ما كتب قال: {إلا في كتاب} مكتوب فيه: عمر فلان كذا وعمر فلان كذا وكذا، عمر فلان كذا إن عمل كذا وعمره كذا أزيد أو أنقص إن لم يعمله.
ولما كان ذلك أمراً لا يحيط به العد، ولا يحصره الحد، فكان في عداد ما ينكره الجهلة، قال مؤكداً لسهولته: {إن ذلك} أي الأمر العظيم من كتب الآجال كلها وتقديرها والإحاطة بها على التفصيل {على الله} أي الذي له جميع العزة فهو يغلب كل ما يريده، خاصة {يسير} ولما ذكر سبحانه أحد أصليهم: التراب المختلف الأصناف، ذكر الأصل الآخر: الماء الذي هو أشد امتزاجاً من التراب، ذاكراً اختلاف صنفية اللذين يتفرعان إلى أصناف كثيرة، منبهاً على فعله بالاختيار ومنكراً على من سوى بينه سبحانه وبين شيء حتى أشركه به مع المباعدة التي لا شيء بعدها والحال أنه يفرق بين هذه الأشياء المحسوسة لمباعدة ما فقال: {وما يستوي البحران} ولما كانت الألف واللام للعهد، بيّنه بقوله مشيراً إلى الحلو: {هذا عذب} أي طيب حلو لذيذ ملائم للطبع {فرات} أي بالغ العذوبة {سائغ شرابه} أي هنيء مريء بحيث إذا شرب جاز في الحلق ولم يتوقف بل يسهل إدخاله فيه وابتلاعه لما له من اللذة والملاءمة للطبع {وهذا ملح أجاج} أي جمع إلى الملوحة المرارة، فلا يسوغ شرابه، بل لو شرب لآلم الحلق وأجج في البطن ما هو كالنار، والمراد أمه ميزهما سبحانه بعد جمعهما في ظاهر الأرض وباطنها، ولم يدع أحدهما يبغي على الآخر، بل إذا حفر عل جانب البحر الملح ظهر الماء عذباً فراتاً على مقدار صلاح الأرض وفسادها.
ولما كان الملح متعذراً على الآدمي شربه، ذكر أنه خلق فيه ما حياته به مساوياً في ذلك للعذب فقال: {ومن كل} أي من الملح والعذب {تأكلون} من السمك المنوع إلى أنواع تفوت الحصر وغير السمك {لحماً طرياً} أي شهي المطعم، ولم يضر ما بالملح ما تعرفون من أصله ولا زلد في لذة ما بالحلو ملاءمته لكم. ولما ذكر من متاعه ما هو غاية في اللين، أتبعه من ذلك ما هو غاية في الصلابة فقال: {وتستخرجون} أي تطلبون أن تخرجوا من الملح دون العذب وتوجدون ذلك للإخراج، قال البغوي: وقيل: نسب اللؤلؤ إليهما لأنه قد يكون في البحر الملح عيون عذبة تمتزج به فيكون اللؤلؤ من ذلك.
{حلية تلبسونها} أي نساؤكم من الجواهر: الدر والمرجان وغيرهما، فما قضى برخاوة ذلك وصلابة هذا مع تولدهما منه إلا الفاعل المختار.
ولما كان الأكل والاستخراج من المنافع العامة عم بالخطاب، ولما كان استقرار شيء في البحر دون غرق أمراً غريباً، لكنه صار لشدة إلفه لا يقوم بإدراك أنه من أكبر الايات دلالة على القادر المختار إلا أهل البصائر، خص بالخطاب فقال: {وترى الفلك} أي السفن تسمى فلكاً لدورانه وسفينة لقشره الماء، وقدم الظرف لأنه أشد دلالة على ذلك فقال: {فيه} أي كل منهما غاطسة إلا قليلاً منها.
ولما تم الكلام، ذكر حالها المعلل بالابتغاء فقال: {مواخر} أي جواري مستدبرة الريح شاقة للماء خارقة للهواء بصدرها هذه مقبلة وهذه مدبرة وجهها إلى ظهر هذه بريح واحدة؛ قال البخاري في باب التجارة في البحر: وقال مجاهد: تمخر السفن الريح، ولا تمخر الريح من السفن إلا الفلك العظام؛ وقال صاحب القاموس: مخرت السفينة كمنع مخراً ومخوراً: جرت أو استقبلت الريح في جريتها، والفلك المواخر التي يسمع صوت جريها أو تشق الماء بجآجئها أو المقبلة والمدبرة بريح واحدة، وفي الحديث: إذ أراد أحدكم البول فليتمخر الريح، وفي لفظ: استمخروا الريح، أي اجعلو ظهوركم إلى الريح فإنه إذا ولاها شقها بظهره فأخذت عن يمينه ويساره، وقد يكون استقبالها تمخراً غير أنه في الحديث استدبار- انتهى كلام القاموس. ثم علق بالمخر معللاً قوله: {لتبتغوا} أي تطلبوا طلباً شديداً. ولما تقدم الاسم الأعظم في الآية قبلها، أعاد الضمير عليه ليعلم شدة ارتباط هذه الآية بالتي قبلها فقال: {من فضله} أي الله بالتوصل بذلك إلى البلاد الشاسعة للمتاجر وغيرها ولو جعلها ساكنة لم يترتب عليها ذلك، وفي سورة الجاثية ما ينفع هنا {ولعلكم تشكرون} أي ولتكون حالكم بهذه النعم الدالة على عظيم قدرة الله ولطفه حال من يرجى شكره.